ألقى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، مساء 21 يوليو 2017م، خطاباً للمواطنين والمقيمين على أرض قطر، حول الوضع الحالي والتوجهات المستقبلية لدولة قطر في ظل الأزمة الخليجية الراهنة فيما يلي نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
المواطنون الكرام، وكل من يعيش على أرض قطر الطيبة،
إخواني وأخواتي،
في هذه الظروف التي يمر بها وطننا، أخاطبكم خطاب العقل والوجدان.
نتحدث بعقلانية لتقييم المرحلة التي نمر بها، وتخطيط المستقبل الواعد الذي أثبت شعبنا أنه أهل له وبوجدانية لأننا جميعا تأثرنا بروح التضامن والتآلف والتحدي التي سادت، وخيبت آمال الذين راهنوا على عكسها لجهل بطبيعة مجتمعنا وشعبنا.
وكما تعلمون، الحياة في قطر تسير بشكل طبيعي منذ بداية الحصار، وقد وقف الشعب القطري تلقائياً وبشكل طبيعي وعفوي دفاعاً عن سيادة وطنه واستقلاله.
لقد أصبح كل من يقيم على هذه الأرض ناطقاً باسم قطر.
وأشير هنا بكل اعتزاز إلى المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يتمتع به هذا الشعب في مقابل حملة التحريض والحصار الذي تلاها، وإلى جمعه بين صلابة الموقف والشهامة التي تميز بها القطريون دائما، حيث أذهلوا العالم بحفاظهم على المستوى الراقي في مقاربة الأوضاع، على الرغم مما تعرضوا له من تحريض غير مسبوق في النبرة والمفردات والمساس بالمحرمات، وحصار غير مسبوق أيضا في العلاقات بين دولنا.
كان هذا امتحاناً أخلاقياً حقيقياً، وقد حقق مجتمعنا فيه نجاحاً باهراً، إذ أثبتنا أنه ثمة أصول ومبادئ وأعراف نراعيها حتى في زمن الخلاف والصراع، وذلك لأننا نحترم أنفسنا قبل كل شيء. وأدعو الجميع إلى الاستمرار على هذا النهج، وعدم الانزلاق إلى ما لا يليق بنا وبمبادئنا وقيمنا.
لقد أدرك أبناء وبنات هذا الشعب بالحس السليم والوعي السياسي خطورة الحملة على وطنهم، ومرامي الحصار الذي فرض عليه. لقد نظروا ما خلف الستار الكثيف من الافتراءات والتحريض، والذي لم يربك رؤيتهم أو يشوشها، ففهموا دلالات محاولة فرض الوصاية على هذا البلد، وخطورة الخضوع للغة التحريض والتهديد والإملاءات.
وها قد تبين للقاصي والداني أن هذه الحملة والخطوات التي تلتها خططت سلفاً، وأقدم مخططوها ومنفذوها على عملية اعتداء على سيادة قطر بزرع تصريحات لم تقل، لتضليل الرأي العام ودول العالم، وبغرض تحقيق غايات مبيتة سلفاً.
لم يدرك من قام بهذه الخطوات أن شعوب العالم لا تتقبل الظلم بهذه البساطة، والناس لا يصدقون أضاليل من لا يحترم عقولهم، وثمة حدود لفاعلية الدعاية الموجهة التي لا يصدقها أصحابها أنفسهم.
ولذلك فإن الدول العربية وغير العربية التي لديها رأي عام تحترمه وقفت معنا، أو على الأقل لم تقف مع الحصار على الرغم من الابتزاز الذي تعرضت له.
لقد اعتمدت الدول التي قامت بهذه الخطوات على مفعول تهمة الإرهاب في الغرب، وعلى تملق مشاعر بعض القوى العنصرية الهامشية في المجتمعات الغربية وأفكارها المسبقة. ولكن سرعان ما تبين لهم أن المجتمعات الغربية مثلنا، لا تقبل أن تطلق تهمة الإرهاب لمجرد الخلاف السياسي، أو لأغراض مثل قمع التعددية في الداخل، أو لتشويه صورة دول أخرى وعزلها على الساحة الدولية. فهذا السلوك، عدا عن كونه ظلما، يلحق في النهاية ضررا بالحرب على الإرهاب.
كما أن المؤسسات الغربية السياسية والمدنية والإعلامية ترفض الإملاءات مثلما نرفضها.
وتبين ذلك من رد الفعل الدولي على الشروط التي حاول البعض فرضها علينا، ولاسيما التحكم بعلاقاتنا الخارجية وتحديد استقلالية سياستنا وإغلاق وسائل الإعلام والتحكم بحرية التعبير في بلادنا.
نحن نعرف أنه وجدت وتوجد حالياً خلافات مع بعض دول مجلس التعاون بشأن السياسة الخارجية المستقلة التي تنتهجها قطر. ونحن أيضاً بدورنا لا نتفق مع السياسة الخارجية لبعض الدول الأعضاء في مجلس التعاون، ولاسيما في الموقف من تطلعات الشعوب العربية، والوقوف مع القضايا العادلة، والتمييز بين المقاومة المشروعة للاحتلال وبين الإرهاب، وغيرها من القضايا.
لكننا لا نحاول أن نفرض رأينا على أحد. ولم نعتقد يوماً أن هذه الخلافات تفسد للود قضية، فثمة أمور مشتركة كثيرة هي الأسباب التي من أجلها أقيمت هذه المنظمة الإقليمية.
اعتقد بعض الأشقاء أنهم يعيشون وحدهم في هذا العالم، وأن المال يمكنه شراء كل شيء، فارتكبوا بذلك خطأ آخر، إذ ذكرتهم دول ومؤسسات عديدة أنهم ليسوا وحدهم، وأن الكثير من الدول لا تفضل المصلحة الآنية على المبدأ والمصلحة البعيدة المدى، وتبين لهم أنه حتى الدول الفقيرة لديها كرامة وإرادة، وأنه لا يمكنهم فرض أمور تجاوزها التاريخ.
لقد حاولوا المس بمبدأين ضحت من أجلهما الإنسانية جمعاء. أولا، مبدأ سيادة الدول وإرادتها المستقلة وثانياً، حرية التعبير والحق في الوصول إلى المعلومة، فلا معنى لحرية التعبير إذا لم يكن لدى المواطن الحق في الوصول إلى المعلومة. واحتكار المعلومة هو الذي كسرته قطر بالثورة الإعلامية التي أحدثتها، ولم يعد ممكنا العودة إلى الخلف، فقد أصبحت هذه الثورة إنجازا للشعوب العربية كلها.
لقد حزنّا كثيرا ونحن نتابع كيف تقوم بعض الدول باتباع أسلوب التشهير والافتراء على قطر بنوع من الوشاية السياسية ضدها في الغرب. فهذا في كل الأعراف عيب: أولاً لأن الادعاءات غير صحيحة، وثانيا لأنها مساس بغير حق بدولة شقيقة. ألا نعلم أبناءنا منذ الصغر أن الوشاية والكذب هما رذيلتان من أسوأ الرذائل؟ أليس التشهير وتلطيخ السمعة جريمة يحاسب عليها القانون في جميع الدول المتحضرة؟
الأخوات والإخوة،
إن قطر تكافح الإرهاب، بلا هوادة ودون حلول وسط، وثمة اعتراف دولي بدور قطر في هذا المضمار، وهي تفعل هذا ليس لأنها تريد أن ترضي به أحدا في الشرق أو الغرب، بل لأنها تعتبر الإرهاب، بمعنى الاعتداء على المدنيين الأبرياء لغايات سياسية، جريمة بشعة ضد الإنسانية ولأنها ترى أن القضايا العربية العادلة تتضرر من الإرهاب، فهو يمس بالعرب والإسلام والمسلمين.
نحن نختلف مع البعض بشأن مصادر الإرهاب، فنحن مثلا نقول إن الدين وازع أخلاقي، وهو ليس مصدر الإرهاب وإنما أيديولوجيات متطرفة دينية وعلمانية. وحتى هذه الأيديولوجيات المتطرفة تصبح مصدراً للإرهاب فقط في بيئة سياسية اجتماعية تنتج اليأس والإحباط.
ومن دون الاستهانة بآفة الإرهاب فمن الواجب علينا عدم تجاهل القضايا الأخرى في عالمنا، فنحن نرى أن العالم كله بما في ذلك منطقتنا يعاني أيضا من مشاكل مثل الفقر والطغيان والاحتلال وغيرها. وهذه المعاناة أيضا تحتاج إلى معالجة، عدا عن كونها من أهم مصادر الإرهاب.
الأخوات والإخوة،
لا أريد أن أقلل من حجم الألم والمعاناة الذي سببه الحصار، وآمل أن ينقضي هذا الأسلوب في التعامل بين الأشقاء، وحل الخلافات بالحوار والتفاوض. فقد أساء هذا الأسلوب لجميع دول مجلس التعاون وصورتها في العالم.
وقد آن الأوان لوقف تحميل الشعوب ثمن الخلافات السياسية بين الحكومات. لقد عرفت منطقتنا العربية أسلوب الانتقام والعقاب الجماعي لمواطني الدولة الأخرى في حالة الاختلاف مع حكومتها، وقد نجحنا في تجنبه هنا في الخليج حتى الآن، ولكن الدول التي طالبت القطريين بمغادرتها، وفصلت بين أبناء العائلة الواحدة، وطلبت من مواطنيها التخلي عن أعمالهم وعائلاتهم ومغادرة دولة قطر، أبت إلا أن تستخدم هذا الأسلوب.
وهو لا يتناقض مع القانون الدولي فحسب، بل يمس بمواطنيهم، وبالقيم وأعراف التعامل بين الناس.
وتعرفون جميعا أننا لم نرد بالمثل، وأننا أتحنا لمواطني الدول الأخرى أن يتخذوا بأنفسهم القرار بالبقاء في قطر أو المغادرة، كل حسب ظروفه وإرادته.
إن أي حل لهذه الأزمة في المستقبل يجب أن يشمل ترتيبات تضمن عدم العودة إلى هذا الأسلوب الانتقامي في التعامل مع المواطنين الأبرياء عند حدوث خلاف سياسي بين الحكومات.
ورغم المرارة التي أحدثتها هذه الخطوات فإن الحكمة السائرة الأكثر انتشارا في المجتمع القطري هذه الأيام هي «رب ضارة نافعة» والتي تتوافق مع الآية الكريمة «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم».
لقد دفعت هذه الأزمة المجتمع القطري ليس فقط إلى استكشاف قيمه الإنسانية كما بينت، إنما أيضا إلى استكشاف مكامن قوته في وحدته وإرادته وعزيمته. وكما ترون من النجاعة التي عالجت فيها الحكومة بوزاراتها المختلفة، ومؤسسات الدولة الأخرى، الأزمة بتوفير كافة احتياجات السكان، بحيث لم يشعروا بالفرق في حياتهم اليومية، فإن نفس هذه الكفاءات التقنية والإدارية والسياسية والإعلامية التي تعاملت مع الأوضاع بروية وعقلانية وتصميم، قادرة على تشييد صرح استقلالنا الاقتصادي وحماية أمننا الوطني وتعزيز علاقاتنا الثنائية مع الدول في هذا العالم.
نحن مدعوون لفتح اقتصادنا للمبادرات والاستثمار بحيث ننتج غذاءنا ودواءنا وننوّع مصادر دخلنا، ونحقق استقلالنا الاقتصادي ضمن علاقات ثنائيّة من التعاون مع الدول الأخرى، في محيطنا الجغرافي وفي العالم أجمع، وعلى أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. كما أننا مدعوون إلى تطوير مؤسساتنا التعليمية والبحثية والإعلامية ومصادر قوتنا الناعمة كافة على المستوى الدولي، وفي تفاعل مع أفضل الخبرات القطرية والعربية والأجنبية. وهذا كله بالطبع بالتعاون مع المقيمين في بلادنا الذين يعملون وينتجون ويعيشون معنا، ووقفوا معنا في هذه الأزمة.
سبق أن وجهت عدّة مرات لاتباع سياسة الانفتاح الاقتصادي على الاستثمار وتنويع مصادر الدخل، ولكن في هذه المرحلة لم يعد هذا مسألة رفاهية، بل أصبح أمراً ملزماً ومحتماً علينا ولا مجال للتهاون فيه. وهذه مسؤوليتنا جميعاً حكومة ورجال أعمال.
لقد ساعدتنا هذه الأزمة في تشخيص النواقص والعثرات أمام تحديد شخصية قطر الوطنية، السياسية والاقتصادية، المستقلة، وفي اتخاذ القرار بالتغلب على هذه العقبات وتجاوزها.
وها أنا أتوجّه إليكم فيما نخوض جميعاً هذا الامتحان بعزة وكرامة، لأقول لكم إن قطر بحاجة لكل منكم في بناء اقتصادها وحماية أمنها.
نحن بحاجة للاجتهاد والإبداع والتفكير المستقل والمبادرات البنّاءة والاهتمام بالتحصيل العلمي في الاختصاصات كافة، والاعتماد على النفس ومحاربة الكسل والاتكالية. وهذه ليست مجرد أماني وأحلام. فأهدافنا واقعيّة وعمليّة، وتقوم على استمرار الروح التي أظهرها القطريون في هذه الأزمة، بحيث لا تكون موجة حماس عابرة، بل أساساً لمزيد من الوعي في بناء الوطن.
إن المرحلة التي تمر بها قطر حالياً هي مرحلة بالغة الأهمية من حيث الفرص التي أتاحتها، ليس فقط للبناء، بل أيضاً لسدّ النواقص وتصحيح الأخطاء، ونحن كما تعلمون لا نخشى من تشخيص الخطأ وتصحيحه.
لقد وجهت الحكومة للقيام بكل ما يلزم لتحقيق هذه الرؤية، بما في ذلك الانفتاح الاقتصادي المطلوب وإزالة العوائق أمام الاستثمار ومنع الاحتكار في إطار بناء الاقتصاد الوطني، والاستثمار في التنمية ولا سيما التنمية البشرية. كما وجهت بتخصيص عائدات الغاز من الاكتشافات الجديدة التي أنعم بها الله علينا للاستثمار من أجل الأجيال القادمة، فقد عاشت قطر برخاء حتى الآن من دونها. وقد وجهت أيضاً بالعمل على الساحة الدولية لتعميق التعاون الثنائي والتوصّل إلى اتفاقيات ثنائيّة بين قطر والدول الأخرى.
الأخوات والإخوة،
نحن نثمن عالياً جهود الوساطة التي يقوم بها أخي صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت الشقيقة والتي دعمتها قطر منذ البداية، وهذه فرصة أن أعبّر عن شكري مرة أخرى لما قام ويقوم به، ونأمل أن تكلل جهوده المباركة بالنجاح، كما نقدّر المساندة الأمريكية لهذه الوساطة، وكذلك المواقف البناءة لكل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأوروبا عموماً وروسيا.
ولا يفوتني أن أشيد بالدور الهام الذي لعبته تركيا في إقرارها السريع لاتفاقية التعاون الاستراتيجي الموقعة بيننا والمباشرة في تنفيذها، وأن أشكرها على استجابتها الفورية لتلبية احتياجات السوق القطرية، كما أشكر كل من فتح لنا أجواءه ومياهه الإقليمية حين أغلقها الأشقاء.
إننا منفتحون على الحوار لإيجاد حلول للمشاكل العالقة، وذلك ليس فقط في صالح دولنا وشعوبنا، وإنما أيضاً لتوفير الجهود العبثية التي تبدّدها دول في الكيد للأشقاء على الساحة الدوليّة، عسى أن تستثمر هذه الجهود في خدمة قضايا الأمة.
إن أي حل للأزمة يجب أن يقوم على مبدأين: أولاً، أن يكون الحل في إطار احترام سيادة كل دولة وإرادتها. وثانياً، أن لا يوضع في صيغة إملاءات من طرف على طرف، بل كتعهدات متبادلة والتزامات مشتركة ملزمة للجميع، ونحن جاهزون للحوار والتوصل إلى تسويات في القضايا الخلافية كافة في هذا الإطار.
ولا يسعني أن أنهي هذه الكلمة دون أن أعبّر عن التضامن مع الشعب الفلسطيني الشقيق ولا سيما أهلنا في القدس، واستنكار إغلاق المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، عسى أن يكون ما تتعرّض له القدس حافزاً للوحدة والتضامن بدلاً من الانقسام.
في الختام، أودّ أن أشيد بما تبدون من تكاتف وتلاحم وعزم وتصميم وسلوك حضاري، وأن أهنئكم على روح النبل والمحبة والألفة التي تسود في ربوعنا في هذه الفترة، فهذه ذخيرتنا وزادنا وعتادنا في التصدي للتحديات الكبرى التي تنتظرنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.